ظل قادة الأعمال وخبراء الاقتصاد في الصين يحثون مسؤولي البلاد على التحرك وبذل الجهد لدعم الاقتصاد، وأخيرًا وافق بنك الشعب الصيني على إطلاق حزمة تحفيز تهدف لتعزيز الإنفاق الاستهلاكي، لكن رغم ذلك يشكك المحللون في قدرة تلك الجهود على إنقاذ البلاد.
عانى اقتصاد البلاد بشكل عام في السنوات الأخيرة وأصبحت قدرته على تحقيق مستهدف نمو هذا العام موضع شك، ورغم إعلان حزمة تدابير شاملة هذا الأسبوع والتي من المفترض أن تكون الترياق الذي يجعل الاقتصاد ينبض بالحياة مرة أخرى، إلا أنها ربما تكون كافية.
ماذا قدمت الصين لدعم اقتصادها؟
في أكثر تدخلات البنك المركزي جرأة لدعم الاقتصاد منذ الوباء والتي ساعدت في تنشيط الأسواق ودفع الأسهم الصينية لتسجيل أفضل أداء أسبوعي منذ 2008، خفض الفائدة على الرهن العقاري بمقدار 0.5%، إلى جانب تخفيض الدفعات المقدمة اللازمة لشراء المنازل.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
كما قلص الاحتياطي الإلزامي للبنوك مما حرر حوالي تريليون يوان (143 مليار دولار) للإقراض، وبالتالي زيادة السيولة في النظام المصرفي ودعم نشاط القروض، وخفض الفائدة على عمليات إعادة الشراء العكسي لأجل 7 أيام إلى 1.5%.
أعلن المسؤولون صندوقا بقيمة 500 مليار يوان (71 مليار دولار) لمساعدة السماسرة وشركات التأمين والصناديق على شراء الأسهم، وسيقدم البنك المركزي التمويل لمساعدة الشركات على إجراء عمليات إعادة شراء أسهمها.
كما تم الإعلان عن صرف دعم نقدي يقدم لمرة واحدة للسكان الذين يواجهون صعوبات في تكاليف المعيشة قبل حلول عطلة اليوم الوطني في الأول من أكتوبر.
وتعد تلك الجهود بمثابة إقرار من الرئيس “شي جين بينج” بأن الاقتصاد المريض بحاجة لبرنامج أكثر تنسيقًا، حتى يتمكن من تحقيق مستهدف نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الرسمي البالغ حوالي 5%.
علامات واضحة على افتقار الثقة
تشير تقديرات مجموعة الأبحاث “جافيكال” إلى ارتفاع مبيعات التجزئة بأقل من 1% منذ بداية العام، إلى جانب المخاوف من انكماش أسعار المستهلكين، وارتفاع البطالة بين الشباب خلال أغسطس لأعلى مستوياتها منذ بدء النظام الجديد للقياس في ديسمبر 2023، وتراجع عائدات الضرائب.
خلال أغسطس، رغم ارتفاع صادرات ثاني أكبر اقتصادات العالم 8.7% على أساس سنوي، إلا أن الواردات زادت 0.5% فقط لتعكس ضعف الإنفاق المحلي.
وفي الوقت الذي تعمل فيه دول على رأسها الولايات المتحدة على فرض ضوابط تصدير جديدة على الصين – بما يشمل رسوما جمركية 100% على سياراتها الكهربائية – فإن هذا يشكل تهديدًا كبيرًا أيضًا لصادراتها.
أيضًا تراجعت أرباح الشركات الصناعية في البلاد 18% على أساس سنوي في أغسطس، وهو ما يرجع جزئيًا لعدم كفاية الطلب الفعال في السوق.
هل تغير تلك التدابير قواعد اللعبة في سوق العقارات؟
كان النمو الاقتصادي في البلاد مدعومًا بمشاريع الإسكان وارتفاع قيم العقارات التي دعمت الإنفاق الاستهلاكي لكن أدى المعروض الزائد من المنازل في السنوات الأخيرة لهبوط الأسعار في العديد من المدن مما تسبب في إفلاس بعض من أكبر مطوري العقارات في ثاني أكبر اقتصادات العالم أو زيادة ديون بعضهم بصورة ضخمة.
لكن أيام انتعاش سوق العقارات انتهت، وانخفضت أسعار المنازل الجديدة في 70 مدينة بمختلف أنحاء البلاد بنسبة 5.3% على أساس سنوي في أغسطس، بعد تراجعها 4.9% في الشهر السابق، كما تراجعت الاستثمارات العقارية 10.2% خلال العام الحالي حتى الآن مقارنة بالأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي.
بالطبع لا يشكل دعم سوق الأسهم أهمية كبيرة، لأنه لا يمتلك سوى 10% فقط من المواطنين العاديين أسهمًا، بينما تشكل العقارات 80% تقريبًا من ثروة الأسر الصينية، و30% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من أن قرار البنك المركزي بخفض أسعار الرهن العقاري الحالية من شأنه وضع 21 مليار دولار إضافية سنويًا في جيوب 50 مليون أسرة صينية كما يتوقع “جولدمان ساكس”، لكن هناك دلائل قليلة على أن أصحاب العقارات سوف ينفقون هذه المكاسب المفاجئة بدلاً من ادخارها أو استخدامها مثلاً لسداد رأس مالهم.
أما “جيه بي مورجان” فيرى أن تلك التدابير لن تعمل على إصلاح أزمة العقارات، وأنه بعدما جاءت مبيعات المنازل أضعف من المتوقعة في سبتمبر فلا يمكن لتدابير تقليدية معالجة مشاكل ضعف توقعات الدخل وأسعار المساكن والمخاوف بشأن تسليم العقارات.
ويتوقع “لين سونغ” كبير خبراء اقتصاد الصين لدى “آي إن جي” أن سوق العقارات ستظل تشكل عبئًا على النمو حتى تستقر الأسعار ويتم تقليص المعروض من المنازل.
ذكر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني أن الحكومة يجب أن تعمل على تعزيز استقرار سوق العقارات عن طريق توسيع قائمة مشاريع الإسكان المعتمدة التي يمكن أن تتلقى المزيد من التمويل وتنشيط الأراضي غير المستغلة.
وأوضح أن المسؤولين سيستجيبون لمخاوف الناس وسيعدلون سياسات تقييد شراء المساكن ويخفضون أسعار الرهن العقاري، ويحسنون سياسات الأراضي والضرائب والتمويل في أقرب وقت لدفع النموذج الجديد من تطوير العقارات.
هل اختارت الصين الترياق المناسب لاقتصادها؟
أثارت تلك الجهود ردود أفعال متباينة، لكن اتفق الجميع تقريبًا على أن الصين كانت بحاجة لبذل جهد لوقف تدهور اقتصادها الذي يؤثر بالطبع على العالم أجمع.
ذكر “لو شي” الأستاذ المساعد الذي يركز على اقتصاد الصين بالجامعة الوطنية في سنغافورة: هذه المرة الأولى التي أرى فيها المركزي الصيني يستخدم أمواله الخاصة بشكل مباشر لدعم أسواق الأسهم والعقارات.
لكن وصفها “جوليان إيفانز بريتشارد” رئيس قسم الاقتصاد الصيني لدى “كابيتال إيكونومكس” في مذكرة بأنها خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ربما لن تكون كافية لدفع عجلة النمو ما لم يتبعها دعم مالي أكبر.
وقال “أندرو تيلتون” كبير خبراء الاقتصاد بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى “جولدمان ساكس”: هذه السياسات النقدية نفهسها لن تغير قواعد اللعبة، لكنها ترسل رسالة مفادها أن القيادة العليا تتطلع لاستقرار الأمور.
يرى “بروس بانج” كبير خبراء الاقتصاد الصيني لدى شركة الخدمات العقارية “جونز لانج سال” أن تأييد المكتب السياسي لمزيد من التحفيز يمثل تحولاً استراتيجيًا في السياسة الكلية من اتباع سياسات مجزأة إلى حزمة منظمة للغاية في الاتجاه الصحيح.
لكن يرى أغلب مراقبي الاقتصاد أن خفض الفائدة ودعم سوق العقارات والأسهم ليس ما يحتاجه الاقتصاد حقًا، لأن بشكل عام يتمتع أغلب سكان البلاد بالقدرة على الوصول للمال لكنهم لا يريدون إنفاقه.
وبالتأكيد أن على الصين تعزيز الإنفاق الاستهلاكي لكنها تتخذ خطوات في الاتجاه المعاكس مع عزمها رفع سن التقاعد للمرة الأولى منذ عام 1978 – من 60 إلى 63 عامًا للرجال على سبيل المثال – ورغم أنها خطوة ضرورية في ظل انكماش أعداد السكان والشيخوخة، إلا أنها بالتأكيد لن تشجع على المزيد من الإنفاق بل ستعزز الادخار.
كما أنها تعتبر بمثابة هدنة مؤقتة لمشكلة متعددة الأطراف لأن البلاد تواجه ضعف ثقة المستثمرين وأداء الأسهم بسبب حملة الرئيس “شي جين بينج” الصارمة السابقة على شركات التكنولوجيا، لذلك فإن ذلك التحفيز لا يواجه التحدي الاقتصادي الحقيقي.
المصادر: أرقام – رويترز – الجارديان – تايم – فاينانشال تايمز – فاينانشال ريفيو