يبدو أن الاقتصاد الأمريكي يعيش حالة من التناقض المحيّر. فبينما يواصل النمو الاقتصادي أداءه القوي، شهدت سوق العمل تباطؤاً لافتاً، إذ لم تضف سوى 22 ألف وظيفة في شهر أغسطس، مقارنة بـ158 ألف وظيفة في أبريل.
وسط هذا التراجع، يطفو على السطح تساؤل مثير للقلق: هل بدأ الذكاء الاصطناعي التوليدي يزاحم البشر في وظائفهم؟
حتى الآن، لا تظهر مؤشرات على “كارثة توظيف” تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي. فخلال العام الماضي، ظلّت حصة الوظائف المكتبية — وهي الأكثر عرضة لأتمتة الذكاء الاصطناعي — مستقرة ضمن إجمالي سوق العمل. كما أظهرت دراسة أجراها مختبر الميزانية بجامعة ييل في أكتوبر، عدم وجود تغيرات جوهرية في طبيعة الوظائف التي يشغلها الناس منذ إطلاق برنامج ChatGPT في أواخر عام 2022.
مدمجو الذكاء الاصطناعي
لكن على مستوى الشركات، تظهر أنماط دقيقة تلوح في الأفق. فقد أجرى الباحثان سيد حسيني وجاي ليشتينغر، وهما طالبان في جامعة هارفارد، دراسة تتبعت الشركات التي وظّفت ما يُعرف بـ”مُدمجي الذكاء الاصطناعي التوليدي” — وهم المتخصصون في إدخال هذه التقنية ضمن العمليات اليومية.
وباستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل نحو 200 مليون إعلان وظيفة، حدد الباحثان ما يقارب 130 ألف وظيفة من هذا النوع في 10,600 شركة أُطلق عليها اسم “الشركات المتبنية للذكاء الاصطناعي“.
مجموعة مقارنة
بدأت وتيرة توظيف هؤلاء المختصين في الارتفاع مع الربع الأول من عام 2023، وهو التوقيت الذي تزامن مع إطلاق نسخة ChatGPT 3.5. أما باقي الشركات وعددها 274 ألف شركة، والتي لم توظّف أشخاصاً لإعادة هيكلة أعمالها عبر الذكاء الاصطناعي، فاعتُبرت بمثابة “مجموعة مقارنة” في الدراسة.
ووفقاً للنتائج، لو لم يكن للذكاء الاصطناعي أي تأثير على التوظيف، لكان من المتوقع أن تسير معدلات التوظيف في الشركتين — المتبنية وغير المتبنية — بوتيرة متقاربة.
بيد أن الباحثين لاحظوا أن الوظائف المبتدئة شهدت انخفاضاً عاماً بعد عام 2023، إلا أن التراجع كان أعمق بنسبة 7.7% في الشركات التي تبنّت الذكاء الاصطناعي. أما الوظائف العليا، فلم تُسجّل فجوة مماثلة في معدلات التوظيف.
ويبدو أن الأعمال الروتينية الذهنية التي يؤديها حديثو التخرج — مثل تصحيح الأخطاء البرمجية أو مراجعة المستندات — أصبحت من السهل نقلها إلى الآلات. كما تشير الدراسة إلى أن هذا التراجع نتج بالأساس عن تباطؤ في التوظيف أكثر من كونه تسريحاً للعاملين.
5 فئات
أما على مستوى التعليم، فقد صنّفت الدراسة الجامعات إلى خمس فئات وفقاً لسمعتها الأكاديمية. وتبيّن أن خريجي الجامعات المتوسطة تضرروا أكثر من نظرائهم في الجامعات العليا أو الدنيا.
ويعتقد الباحثان أن الشركات تميل إلى الاحتفاظ بخريجي الجامعات المرموقة بفضل مهاراتهم التخصصية، وبالخريجين من الجامعات الأقل مرتبة لانخفاض كلفتهم، فيما تتعرض الطبقة المتوسطة التعليمية للضغط الأكبر من منافسة الذكاء الاصطناعي.
قراءة النتائج
ومع ذلك، يحذّر الباحثون من المبالغة في قراءة النتائج. فهناك 17% فقط من العاملين في العينة يعملون لدى الشركات المتبنية للذكاء الاصطناعي، ما يعني أن نطاق التأثير لا يزال محدوداً نسبياً.
كما أن سوق التوظيف للوظائف المبتدئة شهدت تقلبات كبيرة في السنوات الأخيرة، نتيجة آثار جائحة كوفيد-19 وما تبعها من اضطرابات اقتصادية.
لذا، حتى لو كان الذكاء الاصطناعي أحد العوامل التي تضغط على توظيف الخريجين الجدد، فهو بلا شك ليس العامل الوحيد.
البصمات الأولى
في النهاية، يُظهر هذا البحث أن الذكاء الاصطناعي بدأ يترك بصماته الأولى — بهدوء — على سوق العمل، خاصة في الوظائف الدنيا التي تعتمد على مهام متكررة يمكن للآلات إتقانها بسرعة.
ومع استمرار تسارع التطور التقني، يظل السؤال قائماً: إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يواصل صعوده في سلّم الوظائف… دون أن يزيح البشر عن مقاعدهم؟
المصدر: إيكونوميست



