spot_img

    ذات صلة

    ‏جوازات السفر الأقوى عالميًا: أمريكا خارج العشرة الأوائل .. والإمارات الأولى عربيًا

    في صالة مغادرة مطار "جون إف. كينيدي"، يلوّح المسافر الأمريكي بجوازه كأنه مفتاح سحري للعالم، فقبل عقد من الزمن، كان هذا الجواز يفتح له...

    ‏شيخوخة السكان .. كيف غيّرت الاقتصادات من اليابان إلى أوروبا

    في صباحٍ خريفي هادئ، جلس “هانس مولر”، الموظف في إحدى شركات النقل في برلين والبالغ من العمر 58 عامًا، يحتسي قهوته ويتأمل بصمت، متسائلًا: هل سيتقاعد فعلًا عند السابعة والستين كما نصّ عقد عمله، أم أن الحكومة قد ترفع سنّ التقاعد مجددًا؟

    يتذكر هانس كيف كان يرى والده وجيرانه، حين تجاوزوا الستين، وقد أحيلوا إلى التقاعد ليستمتعوا بحياة هادئة، يجلسون في المقاهي أو يعتنون بحدائق منازلهم، مستفيدين من معاشٍ يكفيهم ورعايةٍ صحية تضمن لهم استقرارًا لآخر العمر.

    لكن اليوم، تبدو الصورة مختلفة تمامًا ففي ألمانيا، كما في أغلب الدول الأوروبية، يعيش جيل هانس تحوّلًا ديموغرافيًا عميقًا؛ تراجع في المواليد، وارتفاع في متوسط العمر، وضغوط متزايدة على أنظمة التقاعد والرعاية الاجتماعية.

    لم يعد التقاعد نهاية الرحلة، بل صار مرحلة طويلة قد تمتد لسنوات عديدة تحمل في طيّاتها أسئلة حول من سيدفع التكلفة، وكيف ستصمد الاقتصادات في وجه مجتمع يشيخ بسرعة.

    وتشهد اقتصادات العالم المتقدم تحوّلاً جذريًا بسبب ظاهرة شيخوخة السكان، فمع انخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع متوسط الأعمار، ترتفع نسبة كبار السن (عادة من هم فوق 65 عامًا) في المجتمعات.

    ويفرض هذا الأمر ضغوطًا على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية وأسواق العمل، ويؤثر على وتيرة النمو الاقتصادي.

    وكانت اليابان السباقة في مواجهة هذا التحوّل الديموغرافي، فيما تسير أوروبا على النهج ذاته وإن كان بوتيرة مختلفة.

    تقلص القوى العاملة وضغوط الإنتاجية

    تتراجع الفئة العاملة (من 15 إلى 64 عامًا) في اليابان بوتيرة متسارعة، ووفقًا لبيانات المنتدى الاقتصادي العالمي، قد تواجه البلاد عجزًا بنحو 11 مليون عامل بحلول عام 2040 إذا استمر الاتجاه الحالي.

    ويأتي هذا العجز رغم الجهود المبذولة لزيادة مشاركة النساء وكبار السن في سوق العمل.

    وفي أوروبا، تواجه دول مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا المشكلة نفسها نتيجة انخفاض الخصوبة إلى مستويات متدنية (دون 1.4 طفل لكل امرأة في العديد من الدول الأوروبية).

    وكلما تراجع عدد العاملين فإن هذا يعني تباطؤ النمو الاقتصادي، ففي اليابان، تتوقع دراسة لمجموعة بوسطن كونسلتينغ أن يبلغ متوسط نمو الناتج المحلي للفرد نحو 0.45% سنويًا حتى عام 2050 في ظل تقلّص القوى العاملة.

    أما في أوروبا، فمن المتوقع أن يتراجع عدد العاملين بنحو 15% بين عامي 2023 و2070، ما سيؤدي إلى انخفاض الإنتاج المحتمل في القارة.

    ولمواجهة هذه التحديات بدأت اليابان تنفيذ سياسات تشجّع كبار السن على البقاء في سوق العمل، إذ تعتمد بعض الشركات بالفعل على موظفين تجاوزوا السبعين عامًا، كما استثمرت الحكومة نحو 7.6 مليار دولار أمريكي في برامج تدريب وتأهيل لمهن عالية المهارة.

    في حين بدأت عدة دول في أوروبا برفع سن التقاعد القانوني وإطلاق برامج تعلم مستمر تهدف إلى إعادة دمج كبار السن في سوق العمل، إلى جانب التوسع فيما يُعرف بـ”اقتصاد الفضة” الذي يستفيد من خبرات كبار السن.

    أنظمة التقاعد تحت الضغط

    ولدى اليابان نسبة عالية من الشيخوخة؛ إذ بلغت نسبة من هم فوق 65 عامًا نحو 29% من السكان في 2023، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 37% بحلول 2050، لتحتل المرتبة الثالثة بين أكثر الدول شيخوخة عالميًا بعد الصين وكوريا الجنوبية.

    مما يعني ارتفاع عدد متقاعدي المعاشات مقابل انخفاض عدد المساهمين فيها، وهو أمر متكرر في أوروبا إذ يشكل كبار السن في إيطاليا 24.5% من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 60 مليون نسمة، وهي من أعلى النسب في القارة العجوز.

    دول سيكون لديها النسبة الأعلى من كبار السن الذين يصل عمرهم 65 عامًا فأكثر بحلول 2050

    الترتيب

    الدولة

    النسبة

    1

    الصين

    %40.6

    2

    كوريا الجنوبية

    %39.4

    3

    اليابان

    %37.5

    4

    إيطاليا

    %37.1

    5

    إسبانيا

    %36.6

    6

    تايوان

    %35.3

    7

    اليونان

    %34.8

    8

    البرتغال

    %34.5

    وكلما زادت الشيخوخة، ارتفعت النفقات الصحية حيث قُدّر حجم ما يسمى بـ”اقتصاد المسنين” عام 2023 في اليابان بنحو 96 تريليون ين (652.5 مليار دولار)، ومن المتوقع أن يصل إلى 115 تريليون ين (780 مليار دولار) بحلول عام 2040.

    وفي أوروبا، تواجه الحكومات زيادة في الإنفاق على التقاعد والرعاية الصحية ورعاية المسنين، ويتوقع أن ترتفع نسبة النفقات العامة من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا بحلول 2040 نتيجة هذه التحولات.

    وبطبيعة الحال تفاقم تلك الأوضاع من التزامات التقاعد والرعاية الصحية مما يضغط على الموازنات العامة حيث تمتلك اليابان على سبيل المثال بالفعل أحد أعلى مستويات الدين العام بين الاقتصادات المتقدمة، وشيخوخة السكان تزيد من العبء المالي.

    كما يؤثر تباطؤ النمو في القارة الأوروبية وارتفاع الإنفاق الاجتماعي على استدامة المالية العامة، مما دفع بعض الدول إلى إصلاح أنظمة التقاعد وتقليص مزاياها لضمان الاستمرار.

    اقتصاد الفضة من الأزمة إلى الفرصة

    تولّدت في اليابان سوق ضخمة تخدم كبار السن عُرفت بـ”اقتصاد طول العمر”، وتشمل الرعاية الصحية ورعاية المسنين والخدمات المعيشية، وتقدّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، مع توقعات بارتفاعها خلال العقود القادمة.

    أما في أوروبا، فقد ظهرت فرص اقتصادية مماثلة في مجالات التكنولوجيا الصحية والروبوتات والأدوية، حيث تستثمر الشركات في حلول ذكية تساعد كبار السن على العيش باستقلالية، مثل المنازل الذكية والروبوتات المساعدة.

    وتسهم تلك الأوضاع في دعم الابتكار فعلى سبيل المثال ومع تناقص اليد العاملة، تتزايد الحاجة إلى الأتمتة حيث تلجأ دول مثل اليابان للاعتماد بشكل أكبر على الروبوتات الصناعية لتعويض النقص في العمالة، كما تُشرك كبار السن في وظائف تقنية بعد إعادة تدريبهم.

    كما أصبحت الرقمنة والذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من الاستراتيجيات الاقتصادية في أوروبا لتعويض تراجع عدد العاملين، خاصة في دول شمال أوروبا التي تقود الابتكار في هذا المجال.

    كما تسبب زيادة نسبة كبار السن في رواج سلع وخدمات مختلفة عن الأجيال الشابة، فهم ينفقون أكثر على الرعاية الصحية والخدمات، وأقل على السلع الاستهلاكية طويلة الأمد.

    وفي الدول التي تتزايد فيها نسبة كبار السن نما الطلب على الخدمات المعيشية والترفيهية المخصصة لهم، وتزايد الطلب على السكن الأصغر حجمًا، والسياحة الصديقة للمسنين ما يدفع الحكومات والشركات لإعادة تصميم منتجاتها وخدماتها بما يتناسب مع هذا التحول.

    ومن هنا يتضح أن شيخوخة السكان ليست خطرًا مستقبليًا بعيدًا، بل واقعًا يغيّر الاقتصادات بالفعل في اليابان وأوروبا.

    وأظهرت التجارب الواقعية الآثار العميقة لهذه الظاهرة حيث تقدم تجربة اليابان نموذجًا مبكرًا لما قد تواجهه أوروبا من تراجع أعداد العاملين، ارتفاع الالتزامات المالية، ونمو قطاعات جديدة موجهة لكبار السن.

    ويبدو أن الدرس الأهم في مواجهة الشيخوخة هو عدم الاكتفاء بالتكيّف معها فقط، بل الاستعداد المسبق والتخطيط الذكي من خلال تشجيع العمل بعد سن التقاعد، والاستثمار في أنظمة الرعاية الصحية، ودعم التعليم المستمر، وتحفيز الابتكار لخدمة كبار السن.

    بهذه الطريقة يمكن تحويل شيخوخة السكان من عبء اقتصادي إلى محرك لنمو جديد أكثر استدامة وإنسانية.

    المصادر: أرقام- مجموعة بوسطن كونسلتينغ – المنتدى الاقتصادي العالمي- المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية – الجمعية الدولية للضمان الاجتماعي- صحيفة الجارديان

    spot_img