spot_img

    ذات صلة

    ‏كيف تقيم عقارًا فاخرًا؟

    تُمثل العقارات الفاخرة سوقًا فريدة تجذب نخبة المشترين والمستثمرين، لا سيما في الوجهات الساحرة حيث تتناغم المساكن الشاطئية الحصرية مع الفيلات الأنيقة والشقق ذات...

    ‏دروس التاريخ .. هل تشهد الأسواق ديجافو فقاعة مدمرة عمرها 200 عام؟

    لم تكن كرة القدم هي سبب الانجذاب العالمي لمدينتي مانشستر وليفربول الإنجليزيتين دائمًا، فقبل نحو 200 عام، وتحديدًا في العام 1830، أصبحتا رمزًا لثورة حضارية وطفرة تقنية غير مسبوقة، عندما افتتح خط سكة حديد يصل بينهما وكان الأول من نوعه الذي يعمل بالبخار كليًا.

    في ذلك الوقت، كانت بريطانيا إمبراطورية مترامية الأطراف تقود الاقتصاد العالمي والثورة الصناعية، ووجه مستثمروها الأموال نحو الأصول التقليدية مثل السندات الحكومية، والعقارات، والأراضي الزراعية، والبنوك، والشركات، لكن “طفرة السكك الحديدية” كانت على وشك تغيير كل شيء.

    أحد أبرز الأمثلة على الهوس الذي أوجد سوقًا غير مستندة إلى أسس متينة، هو “جورج هدسون” المولد عام 1800، والذي تحول من مجرد تاجر أقمشة بسيط في مدينة يورك، إلى أحد كبار أقطاب أعمال السكك الحديدية في بريطانيا.

    للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

    في ذروة مجده، لقب بـ “ملك السكك الحديدية”، إذ امتلك أكثر من ألف ميل من خطوط السكك الحديدية، أي ما يعادل نحو ثلث شبكة إنجلترا بالكامل، وتولى رئاسة أربع شركات كبرى، بالإضافة إلى شغله منصب عضو بالبرلمان عن سندرلاند، ورئيس بلدية يورك ثلاث مرات.

    لكن إمبراطوريته المالية التي بدت في أوج تألقها لم يكتب لها الاستمرار طويلًا، وانتهت قصة الصعود السريع بهبوط أسرع دمر الثروة والسمعة وتسبب في خسارة فادحة للبلاد والمستثمرين.

    سوق متعطشة للابتكار

    – خلال تلك الحقبة، بلغت حركة البضائع بين مانشستر وليفربول (الميناء الرئيسي للقطن في البلاد) مستويات غير مسبوقة، ومع ذلك، كان نقل البضائع والركاب محفوفًا بالمخاطر بسبب الطرق الوعرة والعربات غير الآمنة التي تجرها الخيول.

    – في بعض الأحيان كانت البضائع تصل من نيويورك إلى ليفربول، في وقت أقل مما تستغرقه لاحقًا للوصول إلى مانشستر، لذا، عند افتتاح الخط ، رأى الجميع فيه ثورة اقتصادية قادرة على إعادة تشكيل أنظمة النقل والتجارة، ليس فقط في بريطانيا، ولكن على مستوى العالم.

    – لم يكن هذا أول خط يشغل قطارًا بخاريًا، حيث سبقه خط “ستوكتون-دارلينغتون” عام 1825، لكن الأخير استخدم مزيجًا بين عربات الخيول والقوة البخارية، بخلاف خط ليفربول الذي اعتمد كليًا على البخار.

    – لكن قبل الخوض أكثر في قصتنا.. ألا يتشابه ذلك مع طفرة يعيشها العالم الآن ويعول على قدراتها لتغيير شكل الاقتصاد وحياة الإنسان مستقبلًا؟ ألا يعيش العالم الآن خلافًا حول ما إذا كنا نشهد طفرة تقنية حقيقية أم فقاعة أو مزيجًا بين الإثنين؟ ربما!.

    الحظ يصنع “ملك الجشع”

    – أصبح “هدسون” يتمًا في سن صغيرة وترعرع على يد شقيقيه الأكبرين، وغادر موطنه، هاوشام، في مرحلة المراهقة، ليبدأ مسيرته المهنية مبكرًا حيث عمل لدى أحد الخياطين في يورك، وبعمر 21 عامًا تزوج ابنته وأصبح شريكًا في الأعمال.

    – في هذه المرحلة، تفاخر “هدسون” بأنه أحد أنجح رجال أعمال يورك، وعرف بأسلوب حياة المترف، ومع ذلك، أهداه القدر المزيد عندما توفي عمه الأكبر، ليرث 30 ألف جنيه إسترليني في عمر 27 عامًا.

    – كان هذا مبلغًا ضخمًا، ووفقًا لقياس التضخم يعادل نحو 4 ملايين إسترليني الآن، لكن عند قياس قيمة هذا المبلغ كجزء من الاقتصاد البريطاني آنذاك، فإنه سيتراوح بين 50 إلى 100 مليون إسترليني اليوم.

    – أصبح “هدسون” ثريًا بشكل مذهل وترقى في الدوائر الاجتماعية النخبوية، وكان الجمهور والمستثمرون يقدرونه بشكل كبير “لقدرته السحرية” على توليد الأرباح، حتى أن الملكة “فيكتوريا” والأمير “ألبرت” استقبلاه في قصر باكنغهام.

    – بحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أصبح “هدسون” عضوًا بارزًا وأمين صندوق حزب المحافظين، ولعب دورًا مؤثرًا خلال تفشي وباء الكوليرا عام 1832، وشارك في تأسيس بنك “يورك يونيون”، وحين ذاك، بدأ اهتمامه الكبير بطفرة السكك الحديدية.

    – إحدى السمات الرئيسية لهذه الحقبة هي اقتران السلطة بالمال كما يتضح من قصة “هدسون”، الذي أصبح ذا تأثير كبير ليس فقط على السلطة في أقوى دولة في العالم آنذاك، وإنما على المجتمع أيضًا، ولو في ذلك تشابه مع ما نراه الآن.. فربما هو مجرد صدفة تاريخية.

    من الطفرة إلى الطوفان

    – ساهم “هدسون” في تأسيس العديد من خطوط السكك الحديدية، ما سمح لأبناء الطبقات العاملة بالتنقل بسهولة، وانتعشت حركة التجارة بشكل كبير، وانخفضت تكاليف النقل، وازدهرت أعمال الصناعة والزراعة، وعمومًا ساعدت هذه الطفرة في انتشال بريطانيا من الكساد الاقتصادي.

    – ساهمت مشاريع “هدسون” أيضًا في توفير فرص العمل في وقتٍ ساد فيه الفقر والبطالة على نطاقٍ واسع، وعززت الطلب على الحديد والمواد الخام، وسمحت بالسفر ونقل المواد الغذائية سريعًا وبمعدلات أعلى مع انخفاض الهدر والتلف، وزادت قراءة الصحف والكتب.

    – أصبح تمويل السكك الحديدية والمضاربة عليها أمرًا شائعًا في بريطانيا ورهانًا جذابًا لتوليد الثروة، فبعدما مُول السكان المحليون أولى المشاريع، وسط انعدام الثقة تقريبًا، تحول الأمر إلى “هوس” بالنسبة للجميع بعد النجاح الكبير، وتشكلت مئات شركات السكك الحديدية.

    – لكن الهوس بلغ ذروته في الفترة بين عامي 1843 وخريف عام 1845، عندما ارتفعت أسعار أسهم السكك الحديدية بنحو 100%، ووُضعت خططًا إضافية لإنشاء آلاف الخطوط، وانجذب الجميع إلى الربح المرتفع، فاستثمر حتى الأفراد العاديون مدخراتهم الصغيرة.

    – بعدما دُشنت مشاريع دقيقة وناجحة في جميع أنحاء المملكة، سيطر التهور على خطط بناء آلاف الأميال الإضافية، والتي تركزت في مناطق غير مجدية أو مربحة على الإطلاق، حتى أن بعض الخطوط كانت مجرد تكرارًا لخطوط قائمة بالفعل.

    – انفجرت الفقاعة بحلول عام 1847، وعرفت الأزمة لاحقًا بأنها “أكبر فقاعة مضاربة في قطاع السكك الحديدية”، ووصفت من قبل البعض بأنها “أكبر فقاعة مضاربة على الإطلاق”.

    الجميع يدفع ثمن الجشع

    – خلال الفترة بين عامي 1847 و1850، انخفضت أسهم السكك الحديدية بنسب تتراوح بين 70% و85% من ذروتها، وتراجعت القيمة السوقية الإجمالية للقطاع إلى 100 مليون إسترليني من 350 مليون.

    – تضرر 300 ألف مستثمر صغير، وخسر مستثمرو الطبقة المتوسطة ما بين 100 و500 إسترليني لكل منهم (أجر سنوات عدة)، وتعادل الخسائر الإجمالية (200 مليون إلى 250 مليون إسترليني) ما بين 15% إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا.

    – كان السبب الرئيسي للأزمة هو قصر نظر المستثمرين، الذين كانوا يأملون أن يستمر نمو ربحية القطاع على المدى الطويل، لكن التوسع المفرط أدى إلى تدهور الأداء المالي، وتفاقمت الأزمة بسبب الرافعة المالية التي ضخمت العوائد، إلى جانب قلة خبرة المستثمرين الصغار، ومبالغة الإعلام في الترويج للاستثمارات.

    – عجزت 30% من الشركات عن إتمام مشاريعها، وأفلس الكثير منها، وانهارت العديد من البنوك الكبرى، وتضاعفت الفائدة إلى 6% بنهاية عام 1847، وانكمش الاقتصاد بنسبة 0.9% في 1848 بعد نمو 5% عام 1846.

    – كما ارتفعت البطالة في المراكز الصناعية بنسبة تتراوح بين 15% و20%، وانخفضت أسعار الحديد بنسبة 27% بين عامي 1847 و1848 مع تباطؤ بناء السكك الحديدية، وتراجع معدل النمو الاقتصادي بنسبة 1% إلى 2% سنويًا لعدة أعوام تالية.

    – في خضم الفقاعة، بلغ رأس المال المصرح به لمشاريع السكك الحديدية 700 مليون إسترليني، ما يُعادل حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فيما بلغ الاستثمار الفعلي قبل الأزمة حوالي 270 مليون جنيه إسترليني.

    انهيار التحالف مع الحظ

    – في عام 1849، تبين أن العديد من تعاملات “هدسون” كانت احتيالية وأن ثروته الشخصية بُنيت من خلال تعاملات مشبوهة في الأسهم والسندات، حيث تلاعب بالحسابات وقدم رشى للمسؤولين، واحتفل منافسوه لاحقًا بإفلاسه وسجنه بعدما خسر عضويته في البرلمان.

    – كان سقوط “هدسون” مذهلاً مثل صعوده، حيث هرب إلى فرنسا لتجنب دائنيه، وخسر مناصبه الإدارية ومكانته الاجتماعية إلى جانب ثروته، وجمع أصدقاؤه التبرعات لتوفير بعض الدخل له، لكنه عاد عام 1870 بعد إلغاء قانون السجن بسبب الديون، وذلك قبل عام من وفاته.

    – هذه القصة تكررت عبر التاريخ، سواء في فقاعة “دوت كوم” أو الأزمة المالية العالمية 2008، ويبدو أنها تتكرر اليوم مع طفرة الذكاء الاصطناعي التي تثير جدلًا مشابهًا.

    – كما هيمن “هدسون” على المشهد في عالم المال والسياسة، نشهد اليوم رموزًا مثل “إيلون ماسك” وغيره يتبعون نهجًا مشابهًا، فهل فهم العالم الدرس، أم أننا على أعتاب “ديجافو” جديد لهوس السكك الحديدية؟

    المصادر: أرقام- يورك برس- متحف العلوم والصناعة البريطاني- ريالواي مانيا- فوكاس إيكونوميكس- بريتانيكا- كلود- شات جي بي تي- ليوناردو إيه آيحاسبة التضخم للإسترليني

    spot_img