في واحد من أكثر القرارات إثارة للجدل في صناعة التكنولوجيا وعالم البزنس، سحب مجلس إدارة “أوبن إيه آي”، قبل عام، الثقة من الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك “سام ألتمان”، والذي ينظر إليه كثيرون باعتباره رائد تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدم في الوقت الراهن.
لكن الأكثر إثارة للتعجب، لم يكن قرار الإقالة في حد ذاته، وإنما التراجع السريع – خلال 5 أيام تقريبًا – عن سحب الثقة وإعلان عودة “ألتمان” إلى قيادة الشركة، في خطوة أعقبها بطبيعة الحال رحيل مجموعة من التنفيذيين والموظفين الذين عارضوا نهج الشركة.
كان مفهومًا طبعًا أسباب تراجع الشركة عن القرار، بعد ضغوط قوية من مستثمرين أمثال “مايكروسوفت” لإعادة “ألتمان” إلى منصبه، بما في ذلك إعلانها توظيفه وغيره من الموظفين الراحلين عن “أوبن إيه آي” لديها.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
كما جمع موظفو الشركة الناشئة توقيعات على عريضة تهدد بالرحيل إذا لم يعد “ألتمان” إلى منصبه، كل ذلك حدث في غضون أيام قليلة، ليعكس حجم تأثير رائد الأعمال المتزايد على المستثمرين والموظفين.
مع ذلك، لم يكن “ألتمان” في الحقيقة هو صاحب الفضل الوحيد في طفرة “أوبن إيه آي”، أو صاحب النفوذ الوحيد، فشخص بهذا التأثير كان يحتاج لند قوي وجريء من أجل الإطاحة به على الرغم من كل التأييد الذي يحظى به.
في الحقيقة، لعب كبير العلماء والمؤسس المشارك، “إيليا سوتسكيفر”، الذي يحظى بتقدير كبير في الأوساط العلمية، دورًا فعالًا في الانقلاب قصير الأجل الذي عرف لاحقًا بأنه أكبر فضيحة في قطاع التكنولوجيا منذ إقالة “آبل” لمؤسسها “ستيف جوبز” في الثمانينيات.
من سوتسكيفر؟
– ولد “سوتسكيفر” في عام 1986، وهو عالم حاسوب كندي من أصل روسي متخصص في التعلم الآلي، وشارك في تأسيس “أوبن إيه آي” وشغل دورًا بارزًا داخلها.
– عُرف “سوتسكيفر” بمساهماته في التعلم العميق، ويُنسب إليه الفضل باعتباره أحد مخترعي الشبكة العصبية “أليكس نت AlexNet“، إلى جانب معلميه “أليكس كريزيفسكي”، و”جيفري هينتون”، الحاصل على “نوبل” بفضل جهوده في تطوير الذكاء الاصطناعي.
– حصل “سوتسكيفر” على درجة البكالوريوس في الرياضيات وعلوم الحاسوب من جامعة تورنتو، وألحقها بدرجتي الماجستر والدكتوراه، وعمل لدى “دي إن إن ريسيرش DNNResearch“، والتي استحوذت “جوجل” عليها، قبل أن تعينه عالم أبحاث في “جوجل برين”.
– أثناء عمله في “جوجل”، ساهم في تطورات مهمة، بما في ذلك خوارزمية التعلم من تسلسل إلى تسلسل، والعمل على ” تنسرفلو TensorFlow” وهي مصدر مفتوح للتعلم الآلي، وبعد رحيله في أواخر عام 2015، أصبح “سوتسكيفر” مؤسسًا مشاركًا وكبير علماء “أوبن إيه آي”.
– كشف في عام 2023 عن قيادته المشتركة لمشروع “سوبر أليّمنت Superalignment” الطموح والتابع لشركة “أوبن إيه آي”، والذي يهدف إلى معالجة الإجراءات التي تتطلب ذكاءً فائقًا، مؤكدًا أن الذكاء الاصطناعي الفائق سيظهر في غضون هذا العقد.
– جاء “سوتسكيفر” ضمن فئة “أهم المفكرين” بقائمة مجلة “التايم” لأفضل 100 شخصية مؤثرة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي لعام 2024، والتي شملت قادة أعمال أمثال “ساندر بيتشاي” و”ساتيا ناديلا” و”جينسن هوانج” و”سام ألتمان”.
ما المميز في سوتسكيفر؟
– قبل ظهور “أوبن إيه آي” كان الذكاء الاصطناعي مجرد نظرية وبعض التطبيقات المتخصصة محدودة التأثير، مثل نظام “آي بي إم واتسون” وحاسوب “ديب بلو” المتخصص في لعبة الشطرنج، لكن لم يكن لأي منهما نفس التأثير الذي أحدثه “شات جي بي تي”.
– يقول والدا “سوتسكيفر” إنه كان مهتمًا بالذكاء الاصطناعي منذ سن مبكرة، وبدأ العمل مع علماء كبار في مجال الحاسوب في عمر السابعة عشر بمجرد انضمامه إلى جامعة تورنتو، عندما كان يُنظر إلى “ديب بلو” باعتباره أكبر إنجازات الذكاء الاصطناعي آنذاك.
– في حين أن هناك العديد من الأشخاص المسؤولين عن الطفرة التي أحدثتها “أوبن إيه آي”، فهناك شخص واحد يبرز باعتباره أهم أصول الشركة، إذ لم يضع أحد النظريات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والتعلم العميق في موضع التجربة والتنفيذ بشكل أفضل من “سوتسكيفر”.
– كان “أليكس نت” نموذجًا متعدد الطبقات جرى تطويره لتصنيف الصور واكتشاف الأجسام، وهو أحد أولى الشبكات العصبية العميقة التي أظهرت قوة التعلم العميق في المهام المتعلقة بالصور، وتفوق على الأدوات التقليدية، وأثّر نجاحه على تصميم هياكل الشبكات العصبية اللاحقة، والتي وضعت الأساس للنماذج الحديثة.
– ينظر إلى “أليكس نت” باعتباره إحدى الأدوات الثورية في مجال التعلم العميق والتي مهدت لطفرة الذكاء الاصطناعي الحالية، وكان عمل “سوتسكيفر” في هذا المشروع إلى جانب “جوجل”، كافيًا لوضعه على رادار “ألتمان” و”إيلون ماسك” عندما كانا يؤسسان “أوبن إيه آي”.
– تشير تقارير إلى أن “يوشوا بينجيو”، وهو أحد العلماء المعروفين بـ “عرابي التعلم العميق”، أخبر “ألتمان” أنه لن يجد على الأرجح عالمًا رائدًا أفضل من “سوتسكيفر”.
– يقول “سوتسكيفر”، إنه كان يفكر باستمرار حول كيف يمكنه جعل الحواسيب ذكية عندما لم تكن كذلك في عام 2003 (تاريخ انضمامه للجامعة)، حيث تساءل باستمرار عن كيفية فهم عمل الذكاء وتطويره.
الإنجاز والخوف من الهلوسة
– يذكر العالم الكندي في أحد اللقاءات الصحفية: “أدركت أنه إذا قمت بتدريب شبكة عصبية كبيرة على مجموعة بيانات كبيرة، وشبكة عصبية عميقة على مجموعة بيانات كبيرة بما يكفي لتحديد بعض المهام المعقدة، فستنجح بالضرورة”.
– يوضح منطقه أيضًا بالقول إن الدماغ البشري يمكنه معالجة هذه المهام (مثل الرؤية) بشكل سريع، وإن الدماغ البشري مجرد شبكة عصبية بها خلايا عصبية بطيئة، مضيفًا أنه كان بحاجة فقط إلى شبكة عصبية أصغر مع تدريبها على البيانات، وبإضافتها للحاسوب ستكون أفضل.
– تحت قيادة “سوتسكيفر”، تمكنت “أوبن إيه آي” من إطلاق نماذج “جي بي تي” وجميع إصداراتها تقريبًا، مثل “دال إي” و”كوديكس”، لكن قبل الكشف عن “شات جي بي تي”، ذكرت تقارير أنه كان غير متأكد من رد فعل الجمهور ويشعر بقلق بسبب “هلوسات الذكاء الاصطناعي”.
– في مارس 2023، كرر “سوتسكيفر” تحذيراته بالقول: “من المؤكد أن هذه الشبكات العصبية لديها ميل إلى الهلوسة، وذلك لأن نموذج اللغة رائع للتعلم، ولكنه أقل روعة لإنتاج مخرجات جيدة، ولهذا السبب أضيف لنظام ’شات جي بي تي‘ عملية التعلم التعزيزي من ردود فعل البشر”.
– وحول الهلوسة، قال إن النظام لديه ميل إلى “اختلاق الأشياء من وقت لآخر”، لكنه متفائل تمامًا أنه من خلال تحسين التعلم التعزيزي من ردود الفعل البشرية، يمكن تعليمه عدم الهلوسة، مختتمًا: “الآن يمكنك أن تقول هل سيتعلم حقًا؟ إجابتي هي، دعنا نكتشف ذلك”.
– بعد إسهاماته السابقة، ينظر إلى “إيليا سوتسكيفر”، الآن، باعتباره أحد العقول الأساسية وراء نموذج اللغة الكبير “جي بي تي 4” وتطبيقه “شات جي بي تي”، والذي يرى البعض أنه “يغير العالم حقًا”، وسبب طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية، وربما يثبت الوقت أن هذا الرجل لعب دورًا أكبر بكثير.
قتال من أجل الطموح
– بسبب سمعته القوية، كانت هناك شائعات بأن “سوتسكيفر” قد يشكل تهديدًا وبديلًا قويًا لـ “ألتمان”، نظرًا لكونه “الرجل الذي يقف وراء تطوير كل شيء”، وسواء كان هذا صحيحًا أم لا، فإن النهاية لم تكن بنفس درجة التفاهم والود كما كانت البداية.
– خلال دراما الخريف الماضي، صوّت “سوتسكيفر” بصفته أحد أعضاء مجلس إدارة “أوبن إيه آي” لإقالة “ألتمان”، حيث كان يعتقد أن الأخير دفع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي “بعيدًا جدًا وبسرعة كبيرة”.
– احتفى “هينتون” بقرار “سوتسكيفر” في حدث لجامعة تورنتو هذا العام، بالقول: “أنا فخور بشكل خاص بحقيقة أن أحد طلابي طرد سام ألتمان”، حيث اعتبر على ما يبدو هذا الإجراء -الذي لم يستمر طويلًا- انتصارًا “لمبادئ السلامة”.
– سرعان ما تراجع “سوتسكيفر” عن قراره تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية، وأبدى أسفه، لكنه اختفى ولم يظهر في مكاتب الشركة لفترة طويلة، حتى أثيرت تكهنات بشأنه عبر منصات التواصل، قبل أن يعلن بشكل مفاجئ، في مايو، رحيله عن الشركة.
– في السابق، أشاد “سوتسكيفر” بقيادة “أوبن إيه آي”، وأكد أن الشركة ستطور الذكاء الاصطناعي “بشكل آمن”، لكن رحيله جاء بعد هذا الصدام مع “ألتمان” وبالتزامن مع رحيل العديد من الموظفين الذين شككوا في ثقافة السلامة التي تتبعها “أوبن إيه آي”.
– في يونيو، أعلن “سوتسكيفر” أنه أسس شركة جديدة تسمى “سيف سوبر إنتلجينس Safe Superintelligence“، والتي تهدف إلى تطوير الذكاء الاصطناعي المتقدم “بمنأى عن السوق”، لتجنب “الوقوع في سباق الفئران التنافسي”.
– حملت هذه العبارات تلميحًا إلى أن “أوبن إيه آي” عالقة في مثل هذا السباق التنافسي، فيما اعتُبر الانتقاد العلني الأكثر حدة من “سوتسكيفر” للشركة التي وضعها على قمة هرم التكنولوجيا في العالم.
– في أكتوبر عام 2023، قال “سوتسكيفر” إن أولويته ليست التركيز على تطوير نماذج جديدة مثل “جي بي تي” أو “دال إي”، وإنما معرفة كيفية منع الذكاء الاصطناعي الفائق من التمرد على الإنسان، مضيفًا أن “شات جي بي تي” قد يصبح له وعيه الخاص.
– على أي حال، نجحت شركة “سوتسكيفر” الجديدة في جمع مليار دولار في سبتمبر، لترتفع قيمتها في 3 أشهر فقط إلى 5 مليارات دولار، دون حتى أن تمتلك منتجًا واحدًا، وحظيت بدعم من مستثمرين رئيسيين مثل “سيكويا” و”أندريسن هورويتز”.
– قال “سوتسكيفر” في مقابلة صحفية، مؤخرًا: “لقد حددنا جبلًا جديدًا لتسلقه يختلف قليلاً عما كنت أعمل عليه سابقًا، نحن لا نحاول السير على نفس المسار بشكل أسرع، وإذا فعلت شيئًا مختلفًا، فسيصبح من الممكن لك أن تفعل شيئًا مميزًا”.
– تعمل الشركة على بناء نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة وتهدف إلى تحدي المنافسين الكبار مثل “أوبن إيه آي” (تقيم بأكثر من 150 مليار دولار الآن)، بالإضافة إلى “أنثروبيك” و”إكس إيه آي”.
– ختامًا، يبدو أن عالم الحاسوب الطموح لم ييأس بعد، لكن نهاية رحلته مع “أوبن إيه آي” تثير تساؤلات بشأن حول قدرته على تقديم ابتكار جديد يبهر العالم. والأهم؛ إذا كانت الشركة التي تقود ثورة الذكاء الاصطناعي في العالم، قادرة على قيادته إلى مستقبل آمن كما تمنى “سوتسكيفر”؟
المصادر: أرقام- التايم- فوربس- مجلة مينت- فورتشن- ذا جولد بينجوين- فويسز إن إيه آي- الجارديان- مجلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو- فايننشال تايمز- تيك كرانش- سي إن إن- فاست كومباني