– لا يخفى على أحد أن أغلب رجال السياسة يسعون بكل قوة إلى تعزيز النمو الاقتصادي بأي تكلفة إلا أن العديد من الناشطين البيئيين يحذرون من أن وتيرة النمو الحالية تتعدى المستوى الذي تستطيع البيئة تحمله.
– ومن هذا المنطلق، يتناول المؤلف دانييل سسكيند في مراجعة كتاب “النمو: تاريخه وحساب تكلفته” قضية النمو الاقتصادي وتأثيره على البيئة والمجتمعات في ظل تزايد الدعوات لاعتماد نموذج اقتصادي مستدام.
– ويشير الكتاب إلى أن مفهوم النمو التقليدي بات مهدداً، ليس فقط بسبب استنزاف الموارد الطبيعية، ولكن أيضاً لأن النموذج الحالي لا يقدر على تلبية احتياجات الأجيال القادمة.
نظريات مالتوس ونموذج عدم استدامة النمو
– يبدأ الكتاب باستكشاف جذور فكرة عدم استدامة النمو، متتبعًا أصولها إلى نظريات مالتوس التي ربطت بين النمو السكاني ونضوب الموارد.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
– وفي الآونة الأخيرة، برزت دعوات متزايدة من شخصيات مؤثرة مثل الناشطة البيئية جريتا ثونبرج وعالم الأنثروبولوجيا جيسون هيكل، تدعو إلى تبني نموذج اقتصادي يركز على الاستدامة بدلاً من النمو المطرد.
– ويرى هؤلاء النشطاء أن النمو الاقتصادي التقليدي يمثل تهديداً وجودياً لكوكبنا، حيث يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية وتدهور البيئة.
– وبالتالي، فإنهم يطالبون الحكومات باتخاذ إجراءات عاجلة للحد من النمو الاقتصادي، وذلك لضمان بقاء كوكبنا صالحاً للحياة للأجيال القادمة.
التناقض بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة
– يشير سسكيند إلى أن مؤيدي النمو السلبي يطرحون حجة جديرة بالاهتمام، مفادها أن هناك تناقضات محتملة بين السياسات التي تعزز النمو الاقتصادي وبين تلك التي تحافظ على البيئة.
– تشير الأدلة المتزايدة إلى إمكانية تحقيق نمو اقتصادي مستدام يترافق مع انخفاض في الانبعاثات الضارة، الأمر الذي يتطلب منا إعادة النظر في سياساتنا الاقتصادية، والتركيز على تحقيق التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاته.
– مع ذلك، يتم تجاهل حقيقة أساسية وهي قوة الابتكار لا حدود لها، فالأفكار هي المحرك الحقيقي للتقدم، ويمكن استخدامها مرارًا وتكرارًا دون استنزاف.
– يزخر التاريخ بأمثلة على ذلك، حيث تجاوز النمو الاقتصادي كل التوقعات بفضل الابتكارات المتسارعة التي مكنت البشرية من التغلب على التحديات.
– وقد أكد الفائز بجائزة نوبل روبرت سولو أن النمو الاقتصادي الأمريكي كان مدفوعًا بشكل أساسي بزيادة الإنتاجية، وليس بزيادة الاستثمارات أو القوى العاملة، وذلك بفضل الاختراعات والأساليب الإدارية الجديدة.
خيال اليسار وفكرة النمو اللانهائي
– يسخر سسكيند من أنصار النمو السلبي، متهماً إياهم بالتخلي عن خيال اليسار حين يرفضون فكرة النمو اللانهائي.
– ويشبه سسكيند هذا الموقف بمن ينكر وجود بحر متلاطم من الأفكار يحيط بنا، ويحرمنا من استكشاف آفاق جديدة، فكما أن هناك ملايين الطرق لخلط النكهات في المطبخ، فإن عدد الطرق لدمج الأفكار لا حصر له.
– بعد أن أطلق العنان لانتقاداته اللاذعة، تحول سسكيند فجأة إلى دور المستشار، ولم يبخل في تقديم نصائحه، ومنها ضرورة اعتبار النمو المتسارع هو الحل السحري لتجنب المواجهة الصعبة بشأن توزيع الموارد، غير أن التضحيات أمر حتمي، ومن الأفضل أن نواجهها بواقعية.
– على سبيل المثال، قد يؤدي التوسع في التجارة الحرة إلى تآكل القواعد التقليدية التي تجمع المجتمع وتمنحه شعوراً بالهوية والانتماء المشترك، وذلك من خلال فقدان الوظائف.
إعادة تعريف مفهوم الناتج المحلي الإجمالي
– ربما حان الوقت لإعادة النظر في مفهوم الناتج المحلي الإجمالي، فتشديدنا المفرط على هذا المؤشر قد يحجب جوانب أخرى ذات قيمة اجتماعية واقتصادية.
– قد يكون من المفيد إعادة تعريف الناتج المحلي الإجمالي ليشمل جوانب مثل رعاية الأطفال في المنزل، التي تساهم بشكل كبير في رفاه المجتمع، مع مراعاة استبعاد بعض الأنشطة التي لا تعود بالنفع على المجتمع بشكل مباشر، مثل المضاربة المالية.
– وهو يدعو إلى تبني مقاربة بديلة تقوم على تحديد مجموعة محدودة من المؤشرات التي تعبر عن أهدافنا المجتمعية بشكل مباشر، بدلاً من الاعتماد على مؤشرات اقتصادية تقليدية مثل الناتج المحلي الإجمالي.
حماية الابتكار: نحو نظام جديد لبراءات الاختراع
– كما يدعو إلى إعادة النظر في السياسات المتعلقة بالملكية الفكرية والابتكار، مع التركيز على حماية الأفكار الجديدة والمبتكرة.
– ويقترح نظاماً لبراءات الاختراع يركز على منح الحماية للاختراعات التي تتميز بجدتها وابتكارها، وذلك بدلاً من منح الحماية للاختراعات البديهية أو الواضحة.
– وهو يدعو إلى تبني سياسات حكومية تشجع على الاستثمار في البحث والتطوير، مثل تقديم حوافز مالية للباحثين والمبتكرين.
تحفظات على سياسات التعليم والتخطيط العمراني
– وعلى الرغم من تقديره لبعض السياسات، إلا أنه يحمل تحفظات تجاه سياسات أخرى، فهو لا يعطي الأولوية للتوجهات الحالية، مثل زيادة الاستثمارات في التعليم أو إصلاح التخطيط العمراني، والتي يراها غير كافية في ظل الظروف الراهنة.
– ويرى أن هذه السياسات تواجه تحديات كبيرة، خاصة مع تناقص العوائد على الاستثمار في التعليم وتراجع أهمية الموقع الجغرافي في سوق العمل المتغير.
– وقد يساهم توسيع نطاق الإنترنت عالي السرعة في نشر الأفكار، لكنه يعتقد أن الاعتماد على البنية التحتية كمحرك رئيسي للنمو على المدى الطويل ليس كافياً.
– على الرغم من تفاؤل سسكيند بإمكانات الابتكار، إلا أنه يعترف بالصعوبات التي تواجه الدول النامية في اللحاق بركب الدول المتقدمة، مع تقديمه إطارًا نظريًا لفهم عملية النمو.
– ولا يُعتبر الكتاب وصفة سحرية لتحقيق النمو المستدام، ولكنه يقدم رؤية نقدية وشاملة تفتح باب النقاش حول مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل التحديات البيئية.
المصدر: فايننشال تايمز