في عام 2018، تسبب تحقيق صحفي نشرته مجلة “بزنس ويك”، في حالة واسعة من الغضب في واشنطن والصين على حد سواء، بعدما كشف عن محاولة “نادرة وخطيرة للتجسس” على أكبر الشركات وأهم المؤسسات الحكومية في الولايات المتحدة.
وادعى التقرير أن الخوادم التي صنعتها شركة “سوبر مايكرو- Supermicro” الأمريكية في الصين، زُودت برقائق متناهية الصغر من تصنيع وحدة تابعة لجيش التحرير الصيني، ولم تكن جزءًا من التصميم الأصلي للأجهزة.
هذه الأجهزة المشكوك في أمرها، وصلت إلى عشرات الشركات والجهات الحكومية، بما في ذلك “آبل” و”أمازون” وأحد البنوك الكبرى، وسط مخاوف من وصولها إلى البنتاجون، فيما قد يكون أسوأ اختراق لسلاسل التوريد الأمريكية.
على الرغم من أن نتائج التحقيقات ظلت سرية، إلا أن المحللين تكهنوا بأن هذا الكشف سيتسبب في إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، خوفًا من خطر الاختراق الأمني والعسكري أو تهديد البنية التحتية للبلاد خاصة في أوقات الاضطرابات.
ومع ذلك، لم يكن هذا الاختراق الكبير الأخير، ففي أوائل عام 2020، اخترق قراصنة – يعتقد أنهم روس – أنظمة شركة “سولار ويندز- SolarWinds“، التي يستخدم برمجياتها شركات كبيرة ووكالات حكومية رئيسية في أمريكا، فيما عرف بعد ذلك بأنه أحد أكبر الهجمات السيبرانية في التاريخ.
وتمكن المتسللون من وضع كود خبيث يسمح لهم بالتسلل إلى الأنظمة الأكثر حساسية في العالم دون اكتشافهم طيلة أشهر، وقالت الشركة إن هذه البرمجية وصلت إلى 18 ألف عميل، هو أكثر من نصف عملائها الذين يتشكلون من كبرى الشركات والهيئات الحكومية الرئيسية.
مثل هذه الاختراقات سواء عبر الإنترنت أو عبر سلاسل التوريد، تعني أن أكبر اقتصاد في العالم والأقوى عسكريًا، يمكن أن يُحاصر بضغطة واحدة، حيث يمكن سحب جميع بياناته السرية، أو تعطيل البُنى التحتية الحيوية، مثلما حدث خلال الهجوم على “كولونيال بايبلاين“.
لكن الخطر قد يكون أكثر جسامة، حيث يمكن أن يتحول الاختراق التقني (سواء عبر سلاسل التوريد أو الإنترنت) إلى سلاح – بالمعنى الحرفي للكلمة – يُقتل به الآلاف وربما الملايين في لحظات.
فكر مثلًا في سيناريو مثل فيلم “كينجزمان” عندما وزع الملياردير “ريتشموند فالنتاين” رقائق اتصال “مجانية للأبد” على جميع سكان العالم، والتي كانت في الحقيقة شرائح تطلق ترددات تؤثر على عمل المخ وتدفع الأشخاص إلى الجنون وقتل بعضهم بعض.
وأيضًا سيناريو فيلم “اترك العالم خلفك” من بطولة “جوليا روبرتس”، حيث تتداعى البنية التحتية للاتصالات والطاقة والنقل فجأة وتبدأ جميع سيارات “تسلا” -مزودة بأداة القيادة الذاتية- في التوجه إلى أماكن بعينها والتصادم بهدف إغلاق بعض المحاور المرورية على ما يبدو.
هذه السيناريوهات الديستوبية التي توحي بنهاية وشيكة لجميع مظاهر التحضر والعودة إلى العيش في جماعات صغيرة متناحرة على الموارد المتبقية، أو ربما نجاة صفوة المجتمع المحصنة دون غيرها، مخيفة لا شك.
لكنها كانت تنتهي دومًا في إطار السياق الدرامي، ومع ذلك، تحولت مؤخرًا إلى واقع مرعب من شأنه تغيير وجه العالم.
هجوم البيجر وصدمة العالم
– في هجوم متزامن هذا الشهر، نُفذ على مرتين منفصلتين، قُتل العشرات وأصيب الآلاف في لبنان، بعد انفجار آلاف من أجهزة الاتصال في نفس الوقت، حيث استُهدفت أجهزة النداء “بيجر” في الموجة الأولى من الهجوم، وأجهزة الاتصال اللاسلكي في الموجة الثانية.
– بدأت الموجة الأولى من الهجوم عصر يوم 17 سبتمبر، حيث انفجرت أجهزة النداء وتصاعد منها الدخان بعدما تلقت رسائل بدا أنها من جماعة “حزب الله” اللبنانية تسببت في التفجيرات التي استمرت على مدار ساعة، وفي مشاهد مماثلة في اليوم التالي، انفجرت أجهزة اللاسلكي.
– وجهت جماعة “حزب الله” -المستهدفة بشكل رئيسي بهذا الهجوم- أصابع الاتهام نحو إسرائيل، لكن بعيدًا عن تبادل الاتهامات والتبريرات، أثار هذا الاعتداء مخاوف واسعة النطاق في المجتمعين اللبناني والدولي، وحظي باستنكار واسع بين المسؤولين الأمميين والحكوميين.
– قال “أندرو هاموند”، المؤرخ في متحف التجسس الدولي في واشنطن، إن هناك تاريخاً طويلاً من استخدام عملاء الاستخبارات الأجهزة الشخصية لقتل الأهداف، لكن الهجوم على هذا العدد الكبير من الأفراد في وقت واحد باستخدام أدوات معدلة يبدو غير مسبوق.
– نفت شركتان مقرهما تايوان والمجر-نسبت تقارير إعلامية إليهما تصنيع الأجهزة-، مسؤوليتهما عن الحادث، وقالت تايبيه إن مكونات أجهزة النداء لم تكن مصنوعة لديها، فيما أكدت شركة يابانية توقفها عن إنتاج طرازات أجهزة اللاسلكي المستخدمة في الهجوم منذ 10 سنوات.
– هذه الأجهزة تحمل علامات تجارية لشركات عالمية موثوقة ومرت عبر قنوات تجارية عدة سواء في بلدها الأم أو في البلد المستورد، ناهيك عن القيود التنظيمية والرقابية التي تخضع لها إلى جانب جهود الجودة الذاتية للمصنعين.
– إن قدرة أي شخص أو كيان أو دولة على اختراق كل هذه الطبقات في سلسلة التوريد (أو حتى اختراق غيرها إلكترونيًا)، وتحويل المنتجات إلى قنابل موقوتة، يمثل فكرة مرعبة للأمن العالمي، والتي يمكن أن تفقد الشعوب والحكومات الثقة في العولمة والتجارة الحرة.
– دخلت الأجهزة إلى لبنان قبل أشهر من تفجيرها ويُعتقد أنها ربما تكون “مقلدة بشكل محترف”، فيما يستبعد الخبراء فرضية تعرضها لاختراق إلكتروني، ويرجحون ما نقلته وكالة “رويترز” عن تورط إسرائيل في تفخيخ الأجهزة قبل وصولها إلى الأراضي اللبنانية.
– في النهاية، كانت نتيجة الهجوم فوضى عارمة في البلد المستهدف (تخيل أن آلاف الأشخاص أصيبوا بجروح بعضها خطير في نفس الوقت نتيجة آلاف الانفجارات الصغيرة)، وتصاعدت مشاعر قلق عالمية من وقوع هجمات إرهابية على نفس النسق في مناطق أخرى.
– على سبيل المثال، في واقعة اختراق “سوبر مايكرو” المشار إليها، ماذا ستكون النتيجة لو كانت هذه الرقائق الدقيقة مواد متفجرة، حيث تنفجر فجأة آلاف الخوادم والحواسيب لدى أكبر الشركات الأمريكية والهيئات الحكومية الحساسة مثل البنتاجون؟
كيف تهدد العالم؟
– يقول “بروس شناير”، وهو خبير في تكنولوجيا الأمن ومحاضر في كلية كينيدي بجامعة هارفارد: “هذه الهجمات الوقحة توضح التهديد الذي حذر منه خبراء الأمن السيبراني لسنوات، حيث نتعرض للخطر بسبب سلاسل توريد المعدات المحوسبة، ودون وجود وسيلة جيدة للدفاع عن أنفسنا”.
– في الحقيقة لم تكن الطرق المحتمل أنها استُخدمت في تفخيخ هذه الأجهزة جديدة، لكن إسرائيل استخدمتها بطريقة فتاكة بشكل مبالغ فيه، وهو ما يعطي للعالم نبذة عما يمكن أن يصل إليه الحال إذا تصاعد التوتر بين القوى العظمى، بحسب “شناير”.
– لن تقتصر الأهداف على الجماعات المسلحة والإرهابيين فقط، حيث أصبحت الحواسيب الشخصية للمواطنين العاديين عُرضة للخطر، وحتى السيارات والثلاجات وأجهزة تنظيم الحرارة في المنازل والعديد من الأجهزة الأخرى المتصلة، وباختصار، أصبحت الأهداف كثيرة وفي كل مكان.
– وفقًا لـ “شناير” اعتمد الهجوم على 3 عناصر، أولها زرع ما يعرف بـ “المتفجرات البلاستيكية”، وثانيها الاغتيال باستخدام الأجهزة الشخصية، وكلاهما استخدم في وقائع مختلفة، لكن العنصر الأخير والأكثر تعقيدًا هو مهاجمة سلسلة توريد دولية لاختراق شحنة معدات ضخمة.
– اعتمدت وكالة الأمن القومي الأمريكية على العنصر الأخير في عملياتها سابقًا لكن لأغراض أقل تدميرًا، حيث اعترضت معدات اتصالات أثناء نقلها وعدلتها بغرض التنصت وفقًا لـ “وثائق إدوارد سنودن”.
– أيضًا فرضية إنشاء شركة كواجهة لخداع الأشخاص المستهدفين ليست جديدة، ففي عام 2019، أنشأ مكتب التحقيقات الفيدرالي شركة تبيع جوالات آمنة للمجرمين للتنصت عليهم ثم اعتقالهم.
– سلاسل التوريد الهشة من الناحية الأمنية والرقابية، تعني أن الجميع معرض للخطر، ويمكن لأي فرد أو دولة أو مجموعة أن تخترق سلسلة شحنات التقنيات الفائقة وتخريبها أو استخدامها في إلحاق الضرر بالغير أو للتجسس أو لتعطيل البنية التحتية أو حتى للقتل.
– إن الأجهزة الشخصية المتصلة بالإنترنت عرضة للخطر بشكل خاص، ويمكن للهجوم الإلكتروني، على سبيل المثال، تفجير مولدات الكهرباء عالية الجهد، أو تخريب أجهزة الطرد المركزي في المنشآت النووية، أو حتى اختراق السيارات واستخدامها لتنفيذ “اغتيالات لا يمكن اكتشافها”.
هل يفقد العالم الثقة؟
– اعترف المسؤولون الأمريكيون منذ فترة طويلة بأن الولايات المتحدة تعتمد بشكل مفرط على الصين في مجموعة متنوعة من السلع والخدمات، وفي السنوات الأخيرة بدأت الحكومة خطة لنقل بعض سلاسل التوريد الحيوية إلى أراضيها أو إلى الحلفاء.
– كانت الصين منخرطة منذ فترة طويلة في تعزيز “الابتكار المحلي” لتقليل اعتماد البلاد على التقنيات الأجنبية من محركات الطائرات إلى أنظمة تشغيل الحواسيب، وفي العام الماضي، حظرت الوكالات والشركات الحكومية موظفيها من استخدام “أيفون” وغيره من الأجهزة ذات العلامات الأجنبية في العمل.
– أصبحت العديد من البلدان حذرة بالفعل من شراء معدات الاتصالات من الدول التي لا تثق بها، فمثلًا تحظر الولايات المتحدة ودول أخرى أجهزة التوجيه الضخمة من شركة “هواوي” الصينية خشية استخدامها في التنصت، أو تعطيلها في وقت العداء المتصاعد.
– مؤخرًا أفادت تقارير بأن الولايات المتحدة تخطط لحظر استخدام البرمجيات والأجهزة الصينية في تصنيع المركبات المتصلة بالإنترنت والسيارات ذاتية القيادة داخل أراضيها، لمخاوف تتعلق بالأمن القومي.
– في نفس الوقت تتبنى الصين والولايات المتحدة برامج لتعزيز وتطوير صناعة الرقائق محليًا، فيما يبدو أنه سباق خفي نحو ريادة هذه التقنية الحيوية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي دون الاحتياج إلى بعضهما البعض.
– على جانب آخر، نجد أن هذه المخاوف تغذي التوجه نحو العزلة الإلكترونية، كما تغذي احتمالات الوصول إلى سيناريو “انقسام الإنترنت“، حيث تكون هناك شبكتان أو أكثر في ظل العداء المتزايد بين الشرق والغرب.
– قال عضو مجلس النواب الأمريكي “سيث مولتون”: “إذا كانت إسرائيل قادرة على القيام بذلك، فيمكن للصين أن تفعله أيضًا، حيث تترك سلاسل التوريد الكبيرة وغير الشفافة فجوات يمكن استغلالها بسهولة كبيرة، ونحن بحاجة إلى استراتيجية لإغلاقها بالتعاون مع حلفائنا”.
– بعد هجوم البيجر، دعا خبراء أمريكيون إلى تخصيص تمويل حكومي لبدء برنامج لتتبع المكونات، وأشارت تقديرات إلى أن إنشاء نظام أمان صارم يتطلب ما بين 5 ملايين إلى 10 ملايين دولار لكل مصنع، لكن تزيد التكلفة مع إضافة المزيد من الأطراف إلى سلاسل التوريد.
هل يعني ذلك إنهاء الترابط؟
– صحيح أن هناك حالة خوف متنامية بشأن سلاسل التوريد وتسعى دول مثل الولايات المتحدة -التي أطلقت برنامجًا لاستبدال الأجهزة المشكوك فيها- إلى تقليل الاعتماد على الشركات الصينية، لكن من الصعب إنهاء الترابط على الفور حتى مع ألد الخصوم المحتملين.
– في العام الماضي، خفضت البحرية الأمريكية حجم الإمدادات الصينية في سلاسل توريد “التقنيات الحرجة” الخاصة بها بنحو 40%، لكن القوات الجوية وغيرها من وكالات الدفاع زادت من اعتمادها على الصين، وفقًا لشركة تحليل البيانات “جوفيني- Govini“.
– على المدى القصير، قد يعني الهجوم القاتل في لبنان أن قواعد السفر ستتغير مع فرض قيود على اصطحاب الأجهزة الإلكترونية على متن الطائرات (يتوقف ذلك على المعلومات الاستخباراتية)، وربما تشديد الرقابة في المصانع وعلى المنافذ التجارية والقنوات المختلفة بسلاسل التوريد.
– تعتمد شبكة التجارة الدولية المعقدة التي تدعم صناعة الإلكترونيات على حقيقة مفادها أن معظم العناصر تعبر الحدود مع القليل من التدقيق، لكن من شأن تشديد الرقابة أن يؤدي إلى اختناقات كبيرة.
– أما على المدى الطويل، فإذا تزايد القلق العالمي تدريجيًا مع الكشف عن ملابسات اختراق إسرائيل المزعوم لسلاسل التوريد، قد يعجل ذلك بفك الارتباط الاقتصادي بين العديد من الدول وربما يهدد بنشوب صراعات مسلحة مستقبلًا إذا فقدت البلدان الثقة في بعضها البعض.
– في حين يصف الخبراء هجوم البيجر بأنه لا مثيل له في تاريخ الجاسوسية من حيث نطاقه وعدد الضحايا، فإنهم يعتقدون أن خطر إقدام حكومات أخرى على مثل هذا الفعل منخفض، ومع ذلك فإنه يضيف زخماً لجهود توطين إنتاج التقنيات الحيوية.
– الخلاصة أنه حتى مع اللجوء إلى التقنيات القديمة لتجنب الهجمات السيبرانية، لم يكن ذلك كافيًا للتحصن ضد مخاطر الاختراق المحتملة، وأثبت الهجوم أنه في عالم سلاسل التوريد مترامية الأطراف والمعقدة، تكون نقاط الضعف جزءاً من النظام، ويحيط الخطر بالجميع.
المصادر: أرقام- بزنس إنسايدر- بي بي سي- نيويورك تايمز- رويترز- بلومبرج- وول ستريت جورنال- واشنطن بوست